هل تعلمين أن كثيرًا من اضطرابات الشخصية ومشاكل الشخص في حياته وعلاقاته وعمله تعود بشكل كبير إلى فترة مبكرة جدًا في حياته؟ نعم، فقد قال العلماء “نفسية الطفل تتكون عند سن خمس سنوات، ففي هذا السن نصنع شخصيته وبعد ذلك هو يحصد النتائج” وفي هذا المقال أوضح لكِ كيف يحدث ذلك من خلال عرض جانب من نظرية إريكسون لنتعرف من خلالها على الاحتياجات النفسية للطفل في مرحلة الطفولة المبكرة (التي تمتد من الميلاد حتى ست سنوات) وكيف يؤثر اشباع الاحتياجات النفسية للطفل أو عدمه على شخصية الإنسان في المستقبل.
مرحلة الرضيع (من الولادة إلى 18 شهرًا)
سمات الطفل في هذه المرحلة:
- يتعرض الطفل في بداية هذه المرحلة إلى صدمة الميلاد حيث ينتقل من الرحم إلى الدنيا، من مكان هادئ مستقر كانت فيه كل احتياجاته مسددة بدون أن يطلب أو ينتظر إلى مكان ملئ بالصخب يشعر فيه بالجوع والعطش والبرد والحر والألم والقبول أو الرفض.
- ويتسم الطفل في هذه المرحلة بالعجز التام: فهو يحتاج إلى من يطعمه ويسقيه وينظفه وينومه وينقله من مكان إلى آخر، كما أنه يعجز عن التعبير عن مشاعره واحتياجاته.
تحدي هذه المرحلة: الثقة الأساسية أم عدم الثقة الأساسي
الاحتياج الأساسي للطفل في هذه المرحلة هو: القبول غير المشروط، أي أن يُقبَل رغم ضعفه وعجزه عن فعل شئ لنفسه أو للآخرين في مقابل ما يقدمون له. ويتم تلبية هذا الاحتياج من خلال:
- تسديد احتياجاته الجسدية (كالأكل والشرب والتغيير والنوم وخلافه) بشكل مستقر وثابت ويمكن توقعه.
- الحنان الجسدي من خلال الاحتضان والتقبيل والتربيت والتدليك.
- الأصوات الهادئة المطمئنة وتجنب الأصوات المزعجة.
إذا تم تسديد احتياجات الطفل الجسدية وحصل على الحنان شعر بالقبول غير المشروط، مما يدعم ثقته بنفسه، ويدفعه إلى الاستكشاف، ويساعده في إقامة علاقات إيجابية، كما يعطيه القدرة على تحمل غياب الأمان من البيئة الخارجية بعض الوقت ويجعله يثق أنها ستسدد احتياجاته، وهو ما يجعله أكثر قدرة على تحمل إحباطات الحياة ومتفائلًا بأن الأمور ستصير أفضل.
أما إذا لم يحصل على القبول غير المشروط فلن يشعر بالأمان تجاه نفسه أو تجاه الآخرين، ولن يتحمل إحباطات الحياة والعلاقات، ستصبح ثقته بنفسه ضعيفة، وستكون دوافعه لاستكشاف البيئة المحيطة واهنة، كما أنه لن يكون قادرًا على إقامة علاقة إيجابية مع الآخرين.
مرحلة الفطيم (من سنة ونصف إلى ثلاث سنوات)
سمات الطفل في هذه المرحلة:
- تحدث لديه طفرة في النمو العضلي مما يساعده على الانتقال بنفسه من مكان إلى آخر حسب إرادته.
- التحكم في التبول والتبرز.
- النطق ببعض الكلمات للتعبير عن نفسه.
- إطعام نفسه بنفسه.
- كل هذا يجعله يشعر أنه كائن مستقل قادر على إدارة نفسه، ويبدأ في إدراك أنه كائن منفصل عن أمه.
تحدي المرحلة: الإدارة الذاتية أم الخزي والشك
- على الأم مباركة انفصال طفلها عنها، وفي نفس الوقت تبقى متواجدة وقريبة لإشعاره بالأمان، فالطفل في هذه المرحلة يتردد بين الابتعاد عن أمه والعودة إليها ليشعر بالأمان.
- على الوالدين تقبل تمرد الطفل وإدراك أن ذلك تعبير عن سعيه إلى الاستقلالية، ولكن في نفس الوقت لابد من وجود روتين وقواعد لتساعده على وضع حدود لرغبته الجامحة في الاستقلالية، وعلى إدراك أنه كيان منفصل عن الآخرين، وأن الآخرين مختلفون عنه، ومن ثمَّ على احترام حقوقه وحقوق الآخرين في نفس الوقت.
- والتحدي هو أن يتم تطبيق هذه القواعد وتقويم الطفل بلا توبيخ شديد حتى لا يشعر بالخزي والشك في نفسه. فالطفل عندما يُوبَّخ على أشياء طبيعية بسبب قصور قدراته في إدارة نفسه وحركته (كالسقوط أو كسر شئ…الخ) يعتقد أن العيب فيه هو شخصيا، فهو مازال لا يستطيع أن يفرق بين نفسه وبين ما يفعل فيعتقد أنه هو نفسه خطأ وغير مقبول. وهذه بذور الشعور بالخزي الذي يتسبب فيما بعد في الكثير من الأمراض والاضطرابات النفسية والسلوكية.
- على الوالدين أيضًا الحرص على التربية الوجدانية للطفل من خلال تعبيرهما عن مشاعرهما أمام الطفل بالطرق المناسبة وتعليمه كلمات بسيطة للتعبير عن مشاعره. يحكي د. أوسم وصفي في كتابه “مهارات الحياة” موقفًا حدث مع ابنه عندما كان صغيرًا، حيث قال له أنه يكرهه، فسأله د. أوسم بعض الأسئلة مثل: هل تحب اللعب معي؟ هل تخاف أن يصيبني مكروه؟ …الخ، وكانت إجابات الولد تدل على أنه يحبه، فصحح له د. أوسم كلمة “باكرهك” وأخبره أن إجاباته تدل على أنه يحبه ولكنه ربما يقصد أنه حزين أو غاضب منه.
إذا اجتاز الطفل هذه المرحلة بسلام: يشعر بكيانه المنفصل عن أمه وباحتياجه لها وللآخرين، ولا يجد في القواعد تهديدًا له فيطيعها بسهولة. كما أنه إذا حصل على تربية وجدانية سليمة: فإنه يتعلم كيف يتعامل مع مشاعره ويفهم مشاعر الآخرين، مما يساعده في تكوين كيانه المستقل عن الآخرين وفي الشعور بهم وإقامة علاقات معهم.
إذا لم تسدد احتياجاته بشكل كافٍ: يصبح خجولًا منكسرًا أو عنيدًا مسيطرًا، وفي هذه الحالة الثانية يواجه الوالدان تحديًا حيث أنهما إن كانا يتمتعان بالنضج الكافي فإنهما يصنعان قادة، أما إذا لم يكن لديهما نضج كافٍ فإنهما يقهران الطفل ويكسرانه أو يستسلمان له فيصنعان منه مدمنًا أو منحرفًا أو طاغية.
مرحلة الحضانة أو ما قبل المدرسة (من ثلاث إلى ست سنوات)
سمات الطفل في هذه المرحلة:
- تتطور قدرته على فهم المشاعر والأفكار، وتتطور قدراته في اللغة والتخيل.
- يستطيع عمل علاقات والحفاظ عليها.
- يصبح أكثر قدرة على التحكم في حركاته، لكنه أحيانًا يكون عنيدًا ومندفعًا.
- يصبح متشوقًا لتحمل المسئولية وعمل الأشياء بنفسه.
- تكتمل قدرته على التحكم في التبول والتبرز (وجدير بالذكر أن التأنيب الشديد في هذا الأمر من الأسباب الرئيسية للشعور بالخزي والقذارة والسعي إلى الكمال).
- يتكون لديه الضمير والشعور بالصواب والخطأ، وبالتالي الشعور بالذنب. وهناك نوعان من الشعور بالذنب: ذنب صحي يدفع صاحبه إلى عدم تكرار الخطأ ويتوقف عند الاعتذار وإصلاح الخطأ، وذنب مرضي يستمر رغم الاعتذار وإصلاح الخطأ ويشوه صورة الإنسان أمام نفسه ويعيقه عن المضي في حياته بشكل سليم وطبيعي.
- نمو الهوية الجنسية للطفل من خلال التوحد بالوالد من نفس الجنس الذي قد يؤدي غيابه -نفسيًا أو جسديًا- إلى تشوه التوجه الجنسي للطفل فيميل إلى نفس جنسه (المثلية الجنسية) خاصة إذا كان الطفل شديد الحساسية بطبعه.
تحدي المرحلة: المبادرة والذنب
المبادرة تحتمل الصواب والخطأ، لذلك إن كان الطفل يخشى الخطأ بصورة مبالغ فيها ويشعر بالذنب عند أي خطأ فإنه يتجنب المبادرة والقيام بأي عمل جديد. لذا يحتاج الطفل في هذه المرحلة إلى تشجيع البالغين له ولمجهوداته ومساعدتهم له على صنع اختيارات واقعية ومناسبة، وتجنب التوبيخ الشديد أو إبداء رد فعل سلبي تجاه الأخطاء (وهذا يختلف بالطبع عن التقويم والتأديب بشكل سليم).
إذا تم تسديد احتياجات الطفل فإنه يصبح شخصًا مبادرًا، يتمتع بالاستقلالية في التخطيط والقيام بالأشياء.
أما إذا ثبط البالغون سعي الطفل إلى الاستقلالية واعتبروه سخيفًا يشعر الطفل بالذنب تجاه رغباته واحتياجاته، ويصبح شخصًا غير مبادر، ويظهر ذلك في العمل والعلاقات في صور عديدة مثل: ضعف الإبداع الذي تقتله مشاعر الخوف والذنب، عدم التعبير عن رأيه خوفًا من الرفض، وجود صعوبة في الدخول في مشروع جديد أو الإقدام على الزواج.
وأخيرًا فإن الاحتياجات النفسية للطفل في كل مرحلة تظل موجودًة لديه في كل مراحل حياته، ويمكن تشبيه الأمر ببرنامج الكمبيوتر الذي يتم تنزيله بشكل أساسي في مرحلة معينة ولكنه يحتاج إلى تحديث مستمر حتى يظل الجهاز (في هذه الحالة هو الإنسان) يعمل بشكل جيد.
هدي الرافعى
المصادر:
Erikson’s stages of psychosocial development
كتاب (مهارات الحياة، تأليف د. أوسم وصفي، دار الأمين للنشر والتوزيع).
دورة Early Childhood Education (EChldEdu)
photo credit: Bigstock




اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.