القرار الصَعْب!
من بداية حياتنا أنا وزوجي -وإحنا لسّه بنتِّفق على الجواز- كان طلبي الأهم حاجتين: شُغْلي، ودراساتي العُلْيا.. ماقدرش أستغنى عنهم. وفعلًا وافق، وابتدينا حياتنا الزوجيّة بأولويّات واضحة؛ بيتنا وأولادنا مصلحتهم دايمًا العُلْيا، بس في نفس الوقت فيه أهمية متوازية لكل شخص فىي البيت, وقدر المُسْتَطاع لازم كل فرد في البيت يبقى فَعّال، وله أثره في المجتمع، ويحافظ على كيانه وتطوّره.
لمّا ربِّنا رزقنا ببنتنا -فرحتنا الكبيرة وقُرّة عيننا وسبب من أسباب تماسُكْنا- كانت أولويّاتنا في تربيتها برضه واضحة من أوِّل يوم.. توازن نفسيّتها أهم حاجة، وده سَهِّل علينا قرارات كتير بعد كده, في اختيار حضانتها, في قراراتنا في النقل والسفر أو الرجوع والاستقرار, أشتغل وأسيبها في الحضانة, ومن سِنّ كام؟، إحنا الحقيقة الموضوع ده بالذات مشينا فيه عكس العادي خالص! بس مصلحتها كانت بترشدنا.
لمّا كان عمرها خمس شهور تقريبًا كنت وصلت لآخري من قعدة البيت.. مش شخصيتي! ماتعوِّدتش أقعد كده! كل يوم شبه إللي قبلُه وفي آخر اليوم بدوَّر على إنجازاتي أو تَقَدُّمي في حالي.. مابلاقيش حاجة! اكتئااااب!!! قَرَّرت ساعتها إني أرجع الشغل مع إني كنت لسّه ممكن آخذ أجازة، وزوجي وافق، وكرم ربِّنا علينا إنه وّفَّقنا في حضانة جنبنا وجنب الشغل كمان، وسِعْرَها معقول جدًّا، وعدد الأطفال فيها قليل، والناس فيها بيتّمَتَّعوا بأمومة حقيقيّ.. حضانة صغيرة قوي، وأنا ماكُنتش عايزة أكتر من كده. مافيش تعليم ولا حاجة في السِنّ ده أصلًا.. أنا بس عايزة حَدّ أمين، ومُسْتَعِد يسمع كلامي وينفِّذُه، ويحكيلي على كل كبيرة وصغيرة حصلت فى يوم بنتي. وربِّنا يكرمهم.. هُمَّ فعلًا كانوا كده. ابتديت أسيبها ساعتين، ثُمَّ ثلاثة، ثُمَّ تَطَوَّر الموضوع لأربع وخمس ساعات وأحيانًا سِتّة كمان، باين قوي إن شغلي كان سهل! لإن ربِّنا سبحانه وتعالى قَدَّر إني أعرف أرتِّب الموضوع شويّة بشويّة لحد ما بنتي أخدت على المكان، بعدها بقيت أقدر أطوِّل.
قُرْب السنة من ولادة بنتي قَرَّرت إني أغيَّر شغلي لأسباب كتيرة قوي, والغريب بقى إن واحد منهم كان إني مطلوب مِنّي إنىي أقضّي من 8 لـ 9 ساعات يوميًّا في الشغل حتى لو مافيش شغل أصلًا! وده بيحصل كتير! ولفترات طويلة.. اعتراضي ماكنش على عدد الساعات, اعتراضي كان على عدم استغلالهم الكافي لوقتى وقُدْراتي! فابتديت أدوَّر على شغل تاني، وأوِّل ما ربِّنا رزقني بفرصة شغل في حِتّة كويّسة، قَدّمت استقالتي أو الإخطار المُسْبَق عشان تتفَعَّل استقالتي بعدها بثلاث شهور. وجِه الوقت إني أسيب شغلي الأوّلاني، وفاضل كام يوم على استلامي لشغلي الجديد.. بس فيه حاجة وقَّفِتْني.. بنتي اتغيَّرت! بنتي بقت تعيَّط لمّا بوصَّلْها الحضانة.. إزّاي وكل الناس بتحِبّها قوي هناك؟! وكل المُدّرِّسات لكل الأعمار بياخذوا بالهُم منها، ومش بس كده دول بيدَلَّعوها قوي! زي معايا وأكتر!
السبب كان طبيعي جدًّا.. بنتي كِبْرِت، وفي سِنَّها ده بالظّبط الأطفال بيبتدوا يزعلوا من فُراق أهاليهُم -Separation Anxiety- . كنت مستغربة قوي إن ده يحصل بعد شهور من اعتيادها على المكان, بس المكان مالهوش علاقة.. العلاقة بيني أنا وبنتي. التغَيُّرات الأهم من كده وإللي غيَّرت خططي كُلَّها فعلًا، هى التطوّرات في شخصيّتها! مابقتش الطفلة الرضيعة إللي كل احتياجاتها أكل، وغيار، ونوم زى قبل كده، بقى ليها مزاج وحاجات مُفَضَّلة، وذوق، وردود أفعال كمان. بنتى كانت في أولى خطواتها لتكوين شخصيّتها!
هنا ابتديت أحِسّ إن الوقت إللي جاي ده أهم وقت في حياة بنتي. بنتي بتشوف كويّس قوي، وبتمّيِّز، مابقتش مِغَمَّضة. بنتى بقى بيبان في عينيها لمّا معلومة أو أسلوب بيأثَّر فيها. ابتدت تِقَلِّد حاجات بسيطة، بس إللى جوّاها كتير ومسيرُه يطلع, والطفل مابيتعَلِّمش إلّا بالتقليد. وده معناه إن شخصيّتها حتبقى انعكاس لشخصيّة إللي حيقَضّي معاها وقتها طول النهار, وده مش أنا! أيوة هُمَّ ناس كويّسين، وبياخذوا بالهُم منها، وبيدَلَّعوها زي بنتُهُم، بس أنا عندي طموح مُعَيَّن في تربية أولادي.. عندي تَصَوّر مُحَدَّد. افتكرت ساعتها طموحي في تَبَسُّمْها المُسْتَمِر على سُنّة النبي (صلّى الله عليه وسلَّم)، وإني كان نفسي أوصل بنفسي لكده عشان أبقى قدوتها، بس حبقى قدوتها إمتى؟ وهى نايمة؟؟ عايزة طريقة كلامها تبقى هادية، وبصوت واطي، وعايزة ردود أفعالها تبقى هادية حتى في وقوع كارثة, عايزاها تبقى واثقة فى نفسها، وثقتها ماتبقاش نابعة من شكلها أو مُمْتَلَكاتها, وطبعًا حاجات تانية كتير قوى.
اعتذرت عن الشغل وكُلّي كسوف منهم، لإنه كان فاضل 3 أيام على الشغل بس واتفاقنا كان بقاله 3 شهور! إللى أوحش من الكسوف بقى كان الخوف من المستقبل. أنا سِبْتْ شغلي إللي قعدت فيه خمس سنين، وأخدت قرار صعب قوي إني أجَرَّب وظيفة تانية خالص، بس أقعد من غير شغل خالص؟ دى مغامرة كبيرة قوي، أكبر من قُدْراتىي، بس ماثَبِّتنيش في اتّخاذ القرار ده إلّا إيماني بإنه هو ده الصح إللي المفروض يتعمل، وطالما مخلص لله يبقى أكيد ربِّنا حيعوَّضني بالأحسن مِنُّه لمّا يحين أوانه بإذن الله. وبعدين الموضوع كُلُّه سِتّ شهور أو تسع شهور بالكتير على ما بنتي تبقى في سِنّ دخول الحضانة السليم، وتبقى مصلحتها في إنها تروح الحضانة عن قَعْدِتها معايا (ومش مصلحتي أنا إني أبعتها حضانة).
الوقت إللي أنا اخترت إني أقْعُدُه مع بنتي فَرَقْ معاها كتير، وعَزِّز ثقتها في نفسها كتير. صحيح أنا بنتي عمرها سنتين، بس باخُد بالي قَدّ إيه هي حالها بيفرق من نُصّ ساعة لِعْب مع بعض، وقَدّ إيه كل تصَرُّفاتها انعكاس لتعامُلْنا معاها؛ هدوءها من هدوءنا، وعصبيّتها من عصبيّنا، وأدبها من أدبنا. يا دوب حَطّينا بس حجر الأساس، ويا رب يكون أساس صالح. المشوار لسّه طويل إن شاء الله، بس إحنا لحد دلوقتي مش بعيد قوي عن المسار إللي رسمناه في الأوِّل.
أنا لسّه عايزة أشتغل تاني، ويفضل ليّا دوري في المجتمع، وأحِسّ بعبادة ربِّنا في عمارة الأرض؛ لإني طول عمرى مش مؤمنة بفكرة بناء وِحدة جديدة على حساب القديمة.. يبقى إيه النَفْع؟! استمراريّة فقط! لازم كل وِحدة منهم تبقى فَعّالة عشان يبقى فيه لازمة أصلًا لوجود الوحدات دي، وعشان كده كنت مابقتنعش بإنه يكون هدف بنت مِنِّنا إنها تتجَوِّز، وتخَلِّف، وترَبّي ولادها كويّس وبس.. خاصةً إن الأولاد بيتعَلِّموا بالتقليد! لو ماكُنتش أنا ليّا دور في الأرض من حولي حينسوا هُمَّ كمان (إلّا ما رحم ربّي).
أنا كان عندى مشكلة مع الموضوع ده لدرجة إني ماكُنتش بقَدَّر الشخص إللي أفنى حياته في سبيل رعاية أولاده فقط، وكنت بخاف أبقى منهم. أنا لفّيت اللَفَّة دي كُلَّها، ومشيت الطريق بالشقلوب عشان أكتشف أهميّ تكريس الوقت لتربية الأطفال بنفسي, وفي الوقت ده أخوض معارك الأُمّهات المُتَفَرّغين لبيوتهم من زَهَقْ من تكرار الأحوال، وعدم الإحساس بالإنجاز، ونظرة المجتمع (الدونيّة بعض الشئ) ليهُم، وخوفهم من نُكْران الجميل من الناس إللي هُمَّ بيخدموهم بعينيهم.. إلخ، والمعارك كتير.. و كل ده عشان أقَدَّر النوع التاني من الناس إللي نجاحاتهم غير ملموسة وبالتالى مطموسة. ناس كنت بَسْتَخِفّ بمجهودهم، وبَنْزِعِج من إهدارهم لأعمارهم.. وأتاريها هديّة غالية قوي -أعمارهم- مش كل حَدّ يقدر يدّيها خصوصًا وإن مش أي حَدّ يفهمها.
أنا كنت بحب شغلي قوي، لإنه كان بيمَثِّلّي عبادة ربِّنا في الناس، وفي عمارة الأرض، وبخطوات محسوبة وإنجازات ملموسة. كان بيفَكَّرني دايمًا بالإخلاص ويردّني ليه. دلوقتي شاء الله إني أتعَلِّم نوع إخلاص تاني أصعب شويّة، وعشان أقَدَّر الناس صاحبة النوع ده من الإخلاص. مش حنسى إني لسّه في عِزّ شبابي ولازم أستخدمه، وإني وِحْدة ربِّنا خلقها وبَدعي إنه يستخدمني، وأبقى فَعّالة داخل وخارج نطاق أُسْرتي، عشان نرتقي من الاستمراريّة للفاعليّة.
ولسّه بدوَّر على شغل.. بس شغلي إللي بدوَّر عليه ده بقى ليه معايّير جديدة، مش بس هدفه سامي وبَحِسّ فيه بعمارة الأرض، ولكن يتحَمِّل ظروفي الشخصيّة المُتَغَيّرة بسرعة، ويراعي إخلاصي الأصعب والأَولى والأحب.
مواضيع أخري اخترناها لك:
يا معندكيش طموح يا معندكيش قلب! لابد أن تكوني أحدي الاثنين



